فصل: قوله تعالى: {يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار}

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لقد تكاثفت ذنوبك يركب بعضها بعضا وتعاظمت عيوبك فملأت الأرض طولًا وعرضًا وهذا الموت يركض نحو روحك ركضًا وعندك من الدنيا فوق ما يكفي وما ترضى أأمنت على مبسوط الأمل بسطًا وقبضًا كم حصر الردى إذا أتى غصنًا غصًا كم بلبل بالًا وما بالي هدمًا ونقضًا اسمع مني قولًا نفوعًا ونصحًا محضًا كم قد جنيت طويلًا فكن من اليوم ذليلًا أرضًا قال ذو النون المصري رحمة الله عليه لقيت جارية سوداء قد استلبها الوله من حب الرحمن شاخصة ببصرها نحو السماء فقلت علميني شيئًا مما علمك الله فقالت يا أبا الفيض ضع على جوارحك نيران القسط حتى يذوب كل ما كان لغير الله فيبقى القلب مصفى ليس فيه غير الرب عز وجل فعند ذلك يقيمك على الباب ويوليك ولاية جديدة ويأمر الخزان لك بالطاعة فقلت زيديني رحمك الله فقالت خذ من نفسك لنفسك وأطلع الله إذا خلوت بحبك إذا دعوت ثم ولت عني وتركتني إخواني من النفوس نفوس خلقت طاهرة ونفوس خلقت كدرة وإنما تصلح الرياضة في نجيب الجلود الطاهرة إذا وردت عليها النجاسة يطهرها الدباغ لأن الأصل طاهر بخلاف جلد الخنزير للنفوس الخيرة علامات الجد في الغالب والحذر من الزلل والإحتقار للعمل والقلق من خوف السابقة والجزع من حذر الخاتمة فترى أحدهم يستغيث استغاثة الفريق ويلجأ لجأ الأسير الذل لباسه وسهر الليل فراشه وذكر الموت حديثه والبكاء دأبه بات عتبة الغلام ليلة على ساحل البحر فجعل يقول إن تعذبني فإني لك محب وإن ترحمني فإني لك محب فلم يزل يرددها ويبكي إلى الصباح وكان عابد يقول يا إخوتاه ابكوا على خوف فوات الآخرة حيث لا رجعة ولا حيلة لما أسر النوم سار القوم فقطع نفسك باللوم اليوم:
يا مقلة راقدة ** لم تدر بالساهدة

كأنها سهرت ** نجومها الراكدة

بدا سهيل لها ** فانحرفت عائدة

كأنه درهم ** رمت به الناقدة

يا نفس لا تجزعي ** قد تجد الفاقدة

أي الورى خالد ** أنفسهم واحدة

والموت حوض لها ** وهي له واردة

حائدة جهدها ** إن سلمت حائدة

في كل فج لها ** منية راصدة

تفر من حتفها ** وهي له قاصدة

لا تخدعن بالمنى ** قد تكذب الرائدة

هان على ميت ** ما تجد الواجدة

.الكلام على قوله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه}

البيوت هاهنا المساجد و{أذن} بمعنى أمر و{ترفع} بمعنى تعظم و{اسمه} توحيده وكتابه وفي أفراد مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها وأبغض البلاد إلى الله تعالى أسواقها وفي الصحيحين من حديث عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من بنى لله عز وجل مسجدًا بنى الله له مثله في الجنة وفيهما من حديث أبي هريرة قال من غدا إلى المسجد وراح أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح أخبرنا يحيى بن علي أنبأنا أبو جعفر بن المسلمة وأنبأنا سعيد بن أحمد حدثنا علي ابن أحمد بن السيدي قالا أخبرنا المخلص حدثنا البغوي حدثنا عبد الجبار بن عاصم حدثني عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أنيسة عن عدي بن ثابت عن أبي حازم الأشجعي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة أخبرنا هبة الله بن محمد أنبأنا الحسن بن علي أنبأنا أحمد بن جعفر حدثنا عبد الله ابن أحمد حدثني أبي حدثنا هاشم حدثنا ليث حدثني سعيد يعني المقبري عن أبي عبيدة عن سعيد بن يسار أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوضأ أحد فيحسن وضوءه ويسبغه ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الله فيه إلا تبشبش الله به كما تبشبش أهل الغائب بطلعته قوله تعالى: {يسبح له فيها بالغدو والآصال} قال الزجاج لا خلاف بين أهل اللغة أن التسبيح هو التنزيه لله عز وجل عن كل سوء والغدو جمع غدوة والآصال جمع أُصُل وأُصل جمع أصيل فالآصال جمع الجمع والآصال العشيات وللمفسرين في المراد بهذا التسبيح قولان أحدهما أنه الصلاة ثم في صلاة الغدو قولان أحدهما أنها الفجر رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس والثاني صلاة الضحى وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن صلاة الضحى لفي كتاب الله وما يغوص عليهما غواص ثم قرأ {يسبح الله له فيها بالغدو والآصال} وفي صلاة الآصال قولان أحدهما أنها الظهر والعصر والمغرب والعشاء قاله ابن السائب والثاني صلاة العصر قاله أبو سليمان الدمشقي قوله تعالى: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} أي لا تشغلهم قال ابن السائب التجار الجلابون والباعة المقيمون وفي المراد بذكر الله ثلاثة أقوال أحدها الصلاة المكتوبة قاله ابن عباس وروى سالم عن ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد فقال ابن عمر فيهم نزلت {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} والثاني أنه القيام بحق الله تعالى قاله قتادة والثالث ذكر الله تعالى باللسان قاله أبو سليمان الدمشقي قوله تعالى: {وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} أي أداؤها لوقتها وإتمامها قال سعيد بن المسيب رضي الله عنه ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد وقال سفيان بن عيينة لا تكن مثل عبد السوء لا يأتي حتى يدعى ايت الصلاة قبل النداء أخبرنا المبارك بن أحمد الأنصاري أخبرنا الحسين بن عبد الجبار أخبرنا محمد ابن علي بن الفتح أنبأنا علي بن الحسين بن سكينة أنبأنا محمد بن القاسم حدثنا أبو بكر ابن عبيد أنبأنا أبو الحسين ابن أبي قيس أنبأنا سويد بن سعيد أنبأنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن القاسم عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق سيعلم الخلائق اليوم من أولى بالكرم ثم يرجع فينادي فليقم الذين كانوا يحمدون الله عز وجل في السراء والضراء فيقومون وهم قليل ثم يرجع فينادي أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليلون ثم يحاسب الناس قال بعض الزهاد رأيت رجلًا قد أقبل من بعض جبال الشام فسلمت عليه فرد ووقف ينظر كالحيران فقلت له من أين أقبلت فقال من عند قوم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فقلت وأين تريد قال إلى قوم تتجافى جنوبهم عن المضاجع ثم قال واأسفًا قلت على ماذا قال على ما هم فيه إذ كانوا بأعمالهم على طريق نجاتهم:
الناسكون يحاذرون ** وما بسيئة ألموا

كانوا إذا رامو كلامًا ** مطلقًا خطموا وزموا

إن قيلت الفحشاء أو ** ظهرت عموا عنها وصموا

فمضوا وجاء معًا شر ** بالمنكرات طموا وطموا

ففم لطعم فاغر ** ويد على مال تضم

عدلوا عن الحسن الجميل ** وللخنا عمدوا وأموا

وإذا هم أعيتهم ** شنعاهم كذبوا ونموا

فالصدر يغلي بالهواجس ** مثل ما يغلى المحم

.قوله تعالى: {يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار}

تصعد القلوب إلى الحناجر وتنقلب الأبصار إلى الزرق عن الكحل والعمي بعد النظر أخبرنا ابن الحصين قال أنبأنا ابن المذهب أنبأنا أحمد بن جعفر أخبرنا عبد الله ابن أحمد حدثني أبي حدثنا سليمان بن حيان أخبرنا ابن عون عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه أخبرنا عبد الأول حدثنا الداوودي حدثنا ابن أعين حدثنا الفربري حدثنا البخاري حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثني سليمان عن ثور بن زيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم الحديثان في الصحيحين وفي لفظ سبعين باعًا قال مغيث بن سمي تركز الشمس فوق رءوسهم على سبعة أذرع وتفتح أبواب جهنم فيهب عليهم من رياحها وسمومها ويخرج عليهم من نفاحها حتى تجري الأنهار من عرقهم والصائمون في ظل العرش يا من لا يردعه ما يسمعه يا من لا يقنعه ما يجمعه أما القبر عن قريب موضعه أما اللحد عن قريب مضجعه أما يرجع عنه من يشيعه ويأخذ ما جمعه أجمعه كم يخرق خرقًا بالخطأ ثم لا يرفعه كم يحطه القبيح والنصح يرفعه كم يعلم غرور الهوى وهو يتبعه:
لا تعذلنه فإن العذل يولعه ** قد قلت حقًا ولكن ليس يسمعه

أشرف راهب من الرهبان من صومعته فإذا رجل جالس فقال يا هذا ما جلوسك هاهنا فقال له اسكت يا فارغ القلب ودع التشاغل بغيره فإنه منك قريب فصرخ الراهب وخر مغشيًا عليه فلما أفاق قال سيدي لك العتبى لا أعود فيما يقطعني عنك فصمت عن الكلام حتى مات كم غر الغرور غرًا أمد له أطناب الطمع على أوتاد الهوى وسامره في خيمة المنى يملي عليه أمالي الآمال وما أجال فيما جال سهو ذكر الآجال ثم وجه إلى جهة الجهل والغفلة فسلما إليه منشور التسويف فلما ضرب بوق الرحلة وقربت نوق النقلة سل ما سلما إليه فألقي كاللقى على باب الندم:
إلام أمني النفس مالا تناله ** وأذكر عيشًا لم يعد مذ تصرما

وقد قالت الستون للهو والصبا ** دعا لي أسيري واذهبا حيث شئتما

أخبرنا محمد بن عبد الملك أنبأنا أحمد بن الحسين الشاهد حدثني عبد العزيز بن علي حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد الحافظ أخبرنا إبراهيم بن نصر حدثني إبراهيم بن بشار قال سمعت إبراهيم بن أدهم يقول لرجل رآه يضحك لا تطمعن في بقائك وأنت تعلم أن مصيرك إلى الموت فلم يضحك من يموت ولا يدري أين مصيره إلى الجنة أم إلى النار ولا يدري أي وقت يكون الموت صباحًا أو مساء بليل أو نهار ثم قال أوه وسقط مغشيًا عليه.

.سجع على قوله تعالى: {يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار}

لو رأيت أرباب القلوب والأسرار وقد أخذوا أهبة التعبد في الأسحار وقاموا في مقام الخوف على قدم الإعتذار {يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار} عقدوا عزم الصيام وما جاء النهار وسجنوا الألسنة فليس فيهم مهذار وغضوا أبصارهم ولازم غض الأبصار فانظر مدحهم إلى أين انتهى وصار أحزانهم أحزان ثكلى ما لهذا اصطبار ودموعهم لولا التحري لقلت كالأنهار ووجوههم من الخوف قد علاها الصفار والقلق قد أحاط بهم ودار {يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار} جدوا في انطلاقهم إلى خلاقهم وراضوا أنفسهم بتحسين أخلاقهم فإذا بهم قد أذابهم كرب اشتياقهم أتدري ما الذي حبسك عن لحاقهم حب الدرهم والدينار أيقظنا الله وإياكم من هذه السنة ورزقنا اتباع النفوس المحسنة وآتانا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووقانا عذاب النار. اهـ.

.سؤلان وجوابان:

السؤال الأول: فإن قال قائل: كيف الجمع بين قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} وبين قوله: {وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26] فأضافه مرة إلى نفسه ومرة إلى الناس.
والجواب: كأنه قيل: البيت لي ولكن وضعته لا لأجل منفعتي فإني منزّه عن الحاجة ولكن وضعته لك ليكون قبلة لدعائك والله أعلم. اهـ.
السؤال الثاني: فإن قيل: الآيات جماعة ولا يصح تفسيرها بشيء واحد؟
أجابوا عنه من وجوه:
الأول: أن مقام إبراهيم بمنزلة آيات كثيرة، لأن ما كان معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو دليل على وجود الصانع، وعلمه وقدرته وإرادته وحياته، وكونه غنيًا منزّهًا مقدسًا عن مشابهة المحدثات فمقام إبراهيم وإن كان شيئًا واحدًا إلا أنه لما حصل فيه هذه الوجوه الكثيرة كان بمنزلة الدلائل كقوله: {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً قانتا} [النحل: 120].
الثاني: أن مقام إبراهيم اشتمل على الآيات، لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية، لأنه لأن من الصخرة ما تحت قدميه فقط، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية خاصة لإبراهيم عليه السلام وحفظه مع كثرة أعدائه من اليهود والنصارى والمشركين والملحدين ألوف سنين فثبت أن مقام إبراهيم عليه السلام آيات كثيرة.
الثالث: قال الزجاج إن قوله: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِنًا} من بقية تفسير الآيات، كأنه قيل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله، ولفظ الجمع قد يستعمل في الاثنين، قال تعالى: {إِن تَتُوبَا إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وقال عليه السلام: «الاثنان فما فوقهما جماعة» ومنهم من تمم الثلاثة فقال: مقام إبراهيم، وأن من دخله كان آمنًا، وأن لله على الناس حجه، ثم حذف (أن) اختصارًا، كما في قوله: {قُلْ أَمَرَ رَبّي بالقسط} [الأعراف: 29] أي أمر ربي بأن تقسطوا.
الرابع: يجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات، كأنه قيل فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، وكثير سواهما.
الخامس: قرأ ابن عباس ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة {آيَة بَيّنَةً} على التوحيد.
السادس: قال المبرّد {مَّقَامِ} مصدر فلم يجمع كما قال: {وعلى سَمْعِهِمْ} والمراد مقامات إبراهيم، وهي ما أقامه إبراهيم عليه السلام من أمور الحج وأعمال المناسك ولا شك أنها كثيرة وعلى هذا فالمراد بالآيات شعائر الحج كما قال: {وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله} [الحج: 32]. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} يجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال، إما من ضمير {وُضِعَ} وفيه ما تقدم من الإشكال.
وأمَّا من الضمير في {بِبَكَّةَ} وهذا على رأي مَنْ يُجِيز تعدد الحال الذي حالٍ واحدٍ.
وإما من الضمير في {للعالمِينَ}، وإما من {هُدًى}، وجاز ذلك لتخصُّصِه بالوَصْف، ويجوز أن يكون حالًا من الضمير في {مُبَارَكًا}.
ويجود أن تكون الجملة في محل نصب؛ نعتًا لـ {هُدًى} بعد نعته بالجار قبله. ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفةً، لا محل لها من الإعراب، وإنما جِيء بها بيانًا وتفسيرًا لبركته وهُداه، ويجوز أن يكون الحال أو الوصف على ما مر تفصيله هو الجار والمجرور فقط، و{آياتٌ} مرفوع بها على سبيل الفاعلية لأن الجار متى اعتمد على أشياء تقدمت أول الكتاب رفع الفاعل، وهذا أرجح مِنْ جَعْلِها جملةً من مبتدأ وخبر؛ لأن الحالَ والنعتَ والخبرَ أصلها: أن تكون مفردة، فما قَرُب منها كان أولى، والجار قريب من المفرد، ولذلك تقدَّكم المفردُ، ثم الظرفُ، ثم الجملة فيما ذكرنا، وعلى ذلك جاء قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر: 28]، فقدم الوصف بالمفرد {مُؤمِنٌ}، وثَنَّى بما قَرُبَ منه وهو {مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49]، وثلَّث بالجملة وهي {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} وقد جاء في الظاهر عكس هذا، وسيأتي الكلام عليه- إن شاء الله- عند قوله: {بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ} [المائدة: 45].
قوله: {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} فيه أوْجُه:
أحدها: أن {مَقَام}: بدل من {آيَاتٌ} وعلى هذا يقال: إن النحويين نَصُّوا على أنه متى ذكر جَمع لا يُبْدَل منه إلا ما يُوَفِّي بالجمع، فتقول: مررت برجال زيد وعمرو وبكر؛ لأن أقل الجمع- على الصحيح- ثلاثة، فإن لم يُوَفِّ، قالوا: وجب القطع عن البدلية، إما إلى النصب بإضمار فِعْل، وإما إلى الرفع، على مبتدأ محذوف الخبر، كما تقول- في المثال المتقدم- زيدًا وعمرًا، أي: أعني زيدًا وعمرًا، أو زيد وعمرو، أي: منهم زيد وعمرو.
ولذلك أعربوا قول النابغة الذبياني: [الطويل]
تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ** لِسِتَّةِ أعْوَامٍ وَذَا العَامُ سَابِعُ

رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لأْيًا أبينُهُ ** وَنُؤيٌ كَجِذْمِ الْحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ

على القطع المتقدم، أي: فمنها رمادٌ ونؤي، وكذا قوله تعالى: {هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} [البروج: 17- 18] أي: أعني فرعون وثمود، أو أذُمّ فرعونَ وثمودَ، على أنه قد يُقال: إن المراد بفرعون وثمودَ؛ هما ومَنْ تبعهما من قومهما، فذكرهما وافٍ بالجمعيَّةِ. اهـ.